|
الفهرسالمولد والنشأة الخروج والدعوة للقضية رحلاته داعية الإصلاح والتربية روح التحرر في القرآن الصحفي بين السياسي والإسلامي « تونس الشهيدة » الثعالبي كاتباً ومؤلفاً
|
ولد الشيخ عبد العزيز الثعالبي في مدينة تونس عام 1874م في أسرة علم وفضل ودين وجهاد، ومن أصل جزائري، وترعرع في رعاية جدّه المجاهد عبد الرحمن الثعالبي الذي كان من مجاهدي الجزائر ووجهائها المعروفين، فتخلّق بأخلاقه، وتشبّع بمبادئه وقيمه.
كان جدّه عبد الرحمن هذا، مجاهداً قاتل الفرنسيين الذين غزوا بلاده (الجزائر) عام 1830 وأصيب برصاصات في صدره، وكان له دور متميز، رفض إغراءات كبيرة حاول الاستعمار إغراءه بها، كمنصب قاضي القضاة، ثم غادر مدينته (بجاية) إلى تونس، مخلّفاً وراءه بيته وعقاره وأمتعته، وأهله، ووطنه. حفظ عبد العزيز القرآن الكريم منذ نعومة أظفاره، ودرس النحو والعقائد والآداب قبل أن يلتحق بجامع الزيتونة الذي أمضى فيه سبع سنين، وتخرج فيه عام 1896 حاملاً شهادة التطويع، ثم تابع دراسته العليا في المدرسة الخلدونية، ثم انخرط في الحياة العامة، مجاهداً في سبيل الله، كما كان جدّه، ومن أجل النهوض بشعبه التونسي، وأمته العربية والإسلامية التي نامت قروناً حتى ملّ منها الكرى. غزت فرنسا البلاد التونسية بجيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل، واضطر (الباي) إلى توقيع معاهدة باردو وإعلان الحماية على البلاد في 12/5/1881 ولم يعترف الشعب التونسي بهذه المعاهدة، وهب يدافع عن أرضه وكرامته، ولكن الوحشية الفرنسية نكلت به، حتى اضطرته إلى الهدوء لأنه لم يعد من الممكن له، الاستمرار في المقاومة المسلحة، ولكن إلقاء السلاح لا يعني السكوت على الاحتلال والاستعمار، فقد اضطلع عدد من العلماء والمفكرين والسياسيين بالعمل السياسي لتحرير الوطن، وكان في طليعة هؤلاء الشيخ عبد العزيز الثعالبي. اعتبره الفرنسيون عدوهم الأول، وحق لهم ذلك، فمنذ أن غزا الفرنسيون بلاده التونسية وهو في السابعة من عمره، لم تفارق ذاكرته ما وعته من ذلك الاجتياح الهمجي لجيش همجي جاء ليحتل ويقتل وينهب ويغتصب ويسكر ويعتدي على الحرمات، كما لم ينس الدموع التي غسلت لحية جده المجاهد، وهو يرى الفرنسيين يحتلون تونس، بعد أن احتلوا بلده الجزائر. لهذا اندفع إلى المشاركة في العمل السياسي منذ يفاعته، وعندما تألف في تونس أول حزب يدعو إلى مقاومة الاستعمار الفرنسي، وتحرير تونس (عام 1895) انخرط الثعالبي في صفوفه، ثم أسس الحزب الوطني الإسلامي، وكتب في الصحف، وخطب وحاضر داعياً إلى الاستقلال والحرية، فضيقت السلطات الاستعمارية الخناق عليه، حتى اضطرته إلى الهرب من البلاد عام 1897 وبعد عودته من منفاه بعد أربع سنين، حاولت إغراءه ففشلت، فاعتقلته عام 1906 ودبرت مؤامرة خسيسة ضده، زعمت للناس أنه كافر، فتجمهر الرعاع، وهو مقيّد في طريقه إلى المحكمة، وهم يهتفون: اقتلوا الثعالبي الكافر. ثم عرف الشعب الحقيقة، فثار ضد الاستعمار الكاذب الظالم، فأفرجوا عنه بعد حين، ثم أعادوا اعتقاله وطرده خارج البلاد عام 1912 فأضربت البلاد التونسية كلها ثلاثة أيام، احتجاجاً على اعتقاله ونفيه، ووقفت جميع الأعمال، فألح عليه المستعمرون أن يعود إلى بلاده، فأبى ما لم يعدل الوضع السياسي للبلاد. فوعدوه بذلك ولكن بعد حين، لأن الحرب على الأبواب، فعاد قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914. وبعد انتهاء الحرب، استأنف الثعالبي نضاله، وسافر إلى باريس لشرح قضية بلاده، فقبضوا عليه سنة 1920 وكانوا ينقلونه بين السجون التونسية والفرنسية، ثم نفوه من البلاد في آب 1923. وكان الثعالبي يؤمن بالعمل الجماعي، فانخرط في حركة تونس الفتاة التي تدعو إلى الاستقلال التام قبل كل شيء، ثم رأس الحزب الحر الدستوري الذي اتخذ خطة أقل وضوحاً من خطة حركة تونس الفتاة، ولعل قادة حزب الدستور كانوا يرون في هذا الغموض سياسة تسمح لهم بقطع مرحلة يتمكنون فيها من إعادة تنظيم أنفسهم. كانت حياته السياسية حافلة بالأحداث الجسام، فقد أمضى زهرة عمره بين السجون والمنافي والمحاكم والرحلات. غداة عزم الثعالبي على السفر إلى خارج بلاده لنشر القضية التونسية منعته السلطة الفرنسية من ذلك ليفر إلى طرابلس، ثم يغادرها إلى بني غازي ثم قصد الآستانة عن طريق اليونان وبلغاريا عام 1898م، ثم غادر الآستانة إلى مصر للمرة الأولى، حيث اجتمع بأقطابها وطالب بفتح أبواب المدرسة الحربية العثمانية في وجه الطلاب التونسيين؛ وذلك لتخريج طائفة من الشباب تكون مؤهلة لقيادة الثورة.
إثر ذلك عاد إلى تونس عام 1902؛ ليعكف على نشر الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، وتحرير العقل، ونبذ الجمود وطاف بالبلاد التونسية لهذه الغاية يلقي دروسا عامة على الناس الذين التفوا حوله وآمنوا بفكرته. غير أن الأمر لم يتم له على النحو الذي أراده وسرعان ما وجدت الإدارة الفرنسية في حركته خطرا عليها ليواجه مقاومة شديدة من الحكومة التونسية والسلطة الفرنسية انتهت باعتقاله وسجنه؛ الأمر الذي أحدث ضجة كبيرة قادت إلى إجبار الحكومة الفرنسية إلى إطلاقه سراحه. كانت رحلته الأولى عام 1897، ورحلته الثانية الطويلة عام 1923 وسائر رحلاته الأخرى، رحلات قسرية وبعضها كان نفياً من الاستعمار المحتل، أو فراراً من بطش حاكم جائر غادر، وبعضها من أجل إيقاظ العرب والمسلمين وتخليصهم من جمودهم، وتخلفهم، وتمزقهم..
ففي رحلته الأولى قصد طرابلس الغرب، ثم بنغازي، ثم سافر إلى الآستانة عن طريق اليونان وبلغاريا عام 1898 واتصل برجال الدولة العثمانية، وشرح لهم قضية بلاده، ثم غادرها إلى مصر لأول مرة، وشرح قضية بلاده، ثم غادرها إلى الآستانة ثانية، وطالبها بتعزيز صلاتها بتونس، وبفتح أبواب المدرسة الحربية في وجه الطلاب التونسيين. ثم عاد إلى تونس عام 1902 ثم كانت رحلته الثانية إلى الشرق… كانت دار الأمير محمد الحبيب، وقت الحرب العالمية الأولى، شبه مركز لرجال الحركة الوطنية التونسية، وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي يعملون منها وهم آمنون من أعين الرقباء والمخبرين، وكانت أوراقهم ووثائقهم كلها محفوظة في دار الأمير (الحبيب)، ولكن هذا الأمير انقلب على الثعالبي ورجاله، وخشي هؤلاء من بطشه، فقرر الحزب أن يسافر الثعالبي إلى الشرق، فسافر عام 1923 واستمرت رحلته هذه حتى عام 1937 زار في أثنائها مصر، وسورية، والعراق، والحجاز، والهند، وأندونيسيا وغيرها من البلدان، وقام بدعاية قوية في الأوساط العربية والإسلامية لصالح القضية التونسية، وشارك في مؤتمر فلسطين عام 1930 وانتخب عضواً في لجنته التنفيذية. ورحل إلى الجزائر، وإلى المغرب الأقصى، وإلى إسبانيا، وفرنسا، وسويسرا، والصين، وزار الكويت في ذي القعدة من سنة 1343هـ / أغسطس 1924[3] وزار الإمارات العربية الأخرى وغيرها من البلاد التي ما زارها للسياحة والاستجمام، بل من أجل بلاده، ومن أجل قضايا العرب والمسلمين، والله وحده يعلم، كم عانى في تلك الأسفار من الضائقات المالية، ومن ألوان العنت الأخرى. وكان الثعالبي –حيث حل- محترماً من كل من زاره، لما عرفوا من زهده بما في أيدي الناس، وانصرافه عن مصالحه الشخصية إلى المصالح العامة، ولما لمسوا عنده من علم وعقل وذكاء ودهاء وفضل وتضحية وبعد عن الأضواء، وإيثار العام على الخاص. وقد حفلت الصحافة العربية عامة، والمصرية خاصة، بأحاديثه، وأخباره، ومقالاته التي سجل فيها مشاهداته، وتجاربه، ولقاءاته برجالات العالم الإسلامي، وأثار فيها كثيراً من القضايا والأبحاث عن المجتمع الإسلامي، وأحواله، وما يتصل به من شؤون السياسة والتعليم والاقتصاد، وأرسل شيخاً أزهرياً إلى الهند لدراسة قضية (المنبوذين) هناك، وكتب تقريراً تاريخياً مهماً عن الهند، كشف فيه كثيراً من الحقائق الغائبة عن المسلمين في البلاد العربية وغيرها، منها أن غاندي سرق الحركة الوطنية من المسلمين، وجازت خدعته على العرب الذين كانوا يروجون له ولحركته دون أن يعرفوا أنهم مخدوعون. والسبب في اهتمامه بقضية المنبوذين في الهند إنساني، ودعوي، أراد أن يرفع عنهم الظلم، كما علم أنهم يفكرون بترك الديانة الهندوسية، فاتصل بهم، وبحث معهم مشكلاتهم، وطمع في إسلامهم، وقدم لهم ما يسهل دخولهم في الإسلام. وكان في مصر، يسعى إلى تحقيق مشروعه الكبير، في التأسيس لثقافة إسلامية خالصة صافية متحررة من الشوائب الأجنبية، كما دعا إلى إنشاء عصبة أمم إسلامية. إنه لم يضع وقتاً في رحلاته، بل كان صاحب رسالة يسعى إلى تأديتها وتحقيقها، بالتعاون مع المخلصين من أبناء العروبة والإسلام في كل مكان يحل فيه. كان للثعالبي مجموعة من الآراء يرى أنه لا بد منها من أجل النهوض بالشعب، ومقاومة سائر ألوان الجمود والتخلف، حتى يكون جديراً بتحرير بلاده، قادراً على طرد الغزاة. كان يرى أن سبيل المقاومة لطرد الغزاة إنما يكون في تأسيس ثقافة عربية إسلامية، تصعيد الثقة بهذه الأمة التي هي من أعظم أمم الأرض، وأقدرها على مواجهة الأحداث.
ولهذا ركز على تكوين جيل من الشباب المسلم، قادر على العمل في سائر الميادين الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والتربوية، والدينية، ودعاهم إلى التحرر من سائر أشكال التخلف والجمود، وكان يطوف في المدن والأرياف، ليلقي دروساً وخطباً تشرح ما ينبغي أن يكون عليه الشعب من أجل النهوض. كان يدعوهم إلى إصلاح نفوسهم، لتصلح أحوالهم، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، حتى يستبدلوا الحسن بالسيء، وهذا لا يكون بغير العلم والتربية، فلا بدمن الجامعات التي تقوم على أسس علمية منهجية سليمة في الإحياء والتجديد، بدلاً من تلك المتزمتة التي لا تخرج إلا ذوي عقول آلية تتحرك بإرادة غيرها. وكان يدعو إلى التخصص، فالعالم يتخصص في التعليم، والاقتصادي بالاقتصاد، وهكذا.. وكان يدعو إلى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ولا يتسامح في جعل الطبيب قاضياً، والفقيه مهندساً..وكان يدعو إلى المؤسساتية، وترك الأعمال الفردية.. فلا بد من العمل الجماعي، والجهود الاجتماعية، وإنشاء المؤسسات. وكان يدعو إلى دراسة الماضي لنعتبر ونستفيد من الأخطاء التي ارتكبها الأجداد، وأدت بالأمة إلى ما هي عليه الآن من تخلف أطمع بها من دونها. ودعا الشباب ورباهم على نبذ كل رثٍّ بالٍ عفا عليه الزمن، وكان يقول: يكفينا أن نحتفظ من ماضينا: بالدين، والأخلاق، واللغة العربية الفصحى. اهتم الثعالبي بتكوين كوكبة من الشباب المسلم، يجيد اللغة الفرنسية، لشرح قضية بلادهم، واستجاب هؤلاء الشبان، فنشروا مقالات كثيرة في عدد من الصحف الفرنسية، ثم أنشأ الثعالبي لهؤلاء الشبان صحيفة باللغة الفرنسية للدفاع عن القضية التونسية عام 1907. وكان الثعالبي يؤمن بالوحدة العربية ويسعى إلى تحقيقها، ويقول للناس: إن تونس جزء من الأمة العربية. وكان لا يعترف بالحدود المصطنعة التي أقامها الاستعمار لتمزيق العالم الإسلامي، فهي لمصلحة الاستعمار، وتمسك بها الزعماء من أجل مصالحهم هم، وهي ضد مصالح الشعوب المسلمة، فالأرض الإسلامية وطن لكل المسلمين.. وكان هذا عبر التاريخ الإسلامي، وفي سائر العهود الإسلامية، كان المسلم يتنقل من الدولة العباسية، إلى الأندلسية، إلى الفاطمية، فلا يحول دون تنقله حائل. وكان يرى أننا أمة قوية عزيزة الجانب، ولها تأثير فعال في سير السياسية العالمية، وعلينا أن نعرف هذا، ونتحرك بحسبه. وكان يؤمن إيماناً عميقاً بالحرية، ويدعو إليها بقوة وإخلاص. ولم يقتصر خصومه على الاستعمار، بل على بعض الاتجاهات الإسلامية التي وبمجرد مغادرته السجن عمل على تأليف كتاب للرد على خصومه وإظهار الدين الإسلامي الحنيف في مظهر الدين المقام على أسس الحرية والعدالة والتسامح، وإقامة الدليل على أن الإسلام في شكله الصحيح لا يتنافى مع المدنية الحديثة ولا يعوق التقدم. ورأى أنه من الأصلح إصدار ذلك الكتاب باللغة الفرنسية في باريس ليضمن له رواجا أكبر ويتجنب خصومه من أهله. وقد صدر الكتاب بباريس سنة 1905م بعنوان « روح التحرر في القرآن » وقد تضمن ذلك الكتاب كثيرا من الأفكار الإصلاحية التي كانت رائجة وقتها، لا سيما منها المتعلقة بتحرير المرأة المسلمة، ومحاربة البدع، والتمسك بالكتاب والسنة، والدعوة إلى تخليص العقيدة الإسلامية مما اختلط بها من باطل مناف لروح التوحيد الخالص.
عرف الثعالبي ما للصحافة من آثار في نفوس الناس، وفي تحويل الرأي العام، إلى جانب وسائل الإعلام الأخرى، فبادر هو إلى الكتابة في الصحف التونسية، ودعا إخوانه وتلاميذه إلى الكتابة فيها وفي الصحف الفرنسية، ثم أنشأ صحيفة باللغة الفرنسية عام 1907 أسماها (لوتنزيان) أي التونسي، برأس مال كبير أرهقه، وكتب فيها نخبة من الكتاب التونسيين، ثم أصدر عام 1908 جريدة باللغة العربية أسماها (التونسي) دعا فيها إلى إحياء الحكم الدستوري، وواجه بقوة، مؤامرات الاستعمار الفرنسي على اللغة العربية، فقد دعا المستعمرون إلى اتخاذ العامية التونسية لغة رسمية للمدارس والدواوين، وانتقد بعنف، قرار الحكومة التونسية المؤتمرة بأوامر الاستعمار، برصد مبلغ ضخم لوضع معجم للهجة العامية التونسية، وعارض قرار تأليف لجنة لكتابة تاريخ تونس بالعامية التونسية، وعلى نحو موال للاستعمار. ولم يصبر المستعمرون على ما ينشر في (التونسي) فأمروا بتعطيلها.
كان يكتب في صحيفتي المنتظر والمبشر، فأغلقهما المستعمرون الفرنسيون، وأصدر جريدة سبيل الرشاد سنة 1313 هـ فأغلقها الفرنسيون بعد سنة من صدورها، وأصدرت الحكومة التونسية المعينة من الاستعمار، قانوناً جديداً للمطبوعات اشترطت فيه شروطاً تعجيزية حتى تمنع صدور الصحف الوطنية التي تدعو إلى المقاومة والتحرير والاستقلال والتمسك بالإسلام. أنشأ مجلة الفجر في آب 1920 وكان يكتب في كثير من الصحف التونسية والمصرية، والشامية، والعراقية، والفرنسية، ويبث عبر قلمه السيال، أفكاره النيرة، في جرأة أدهشت قراءه. ومما يحسب للثعالبي أن نشاطه السياسي على رأس حزبه لم يمنعه من مواصلة عمله الإسلامي ومشاركة زعماء الإصلاح في دراسة أوضاع العالم الإسلامي والخوض في المباحث الدينية والاجتماعية التي كانت تشغل بال المفكرين المسلمين وقتها.
كما استثمر مجلة « الفجر » لسان حال الحزب الحر الدستوري التونسي؛ لتوضيح المنهج النظري الذي اختاره لنشر أفكاره الإصلاحية، وهو يتلخص في « أن مصدر التوجيه هو الدين الإسلامي، وأن الدين قوامه العلم والأخلاق، ووسيلة نشره الدعوة والتناصح، وأن من حق الدعوة الإقدام في سبيلها والاستخفاف بما يتعرض إليه القائم بها من متاعب أو يناله من إرهاق ». ولم تمضِ مدة طويلة على ميلاد الحزب الدستوري حتى بدأت منذ أواخر سنة 1921م تظهر الخلافات بين بعض قادته حول طرق العمل الواجب اتباعها في سبيل تحقيق المطالب الوطنية؛ فبينما كانت الأغلبية الملتفة حول الثعالبي ترى ضرورة المطالبة بالدستور والتمسك بالمطالب الواردة في كتاب « تونس الشهيدة » كان الشق الآخر الذي يتزعمه « حسن قلاتي » يدعو إلى قبول الإصلاحات التي أعلنت عنها الحكومة الفرنسية والمنحصرة في رفع الرقابة على الصحافة وتأسيس وزارة للعدل وتعويض المجلس الشوري بالمجلس الكبير. وانتهى الأمر بهذا الشق الأخير إلى الانفصال عن الحزب الدستوري وتأسيس حزب جديد أطلق عليه اسم « الحزب الإصلاحي »، ولكن ذلك الحزب لم يستطع استقطاب الجماهير الشعبية التي ظلت وفيّة للثعالبي وحزبه. وبالإضافة إلى ذلك فقد سخّر كل طاقته لتأليف كتاب « تونس الشهيدة » بالتعاون مع المحامي التونسي المقيم بباريس أحمد السقا الذي تولى نقله إلى اللغة الفرنسية، وقد أحرز الكتاب منذ صدوره في شهر يناير 1920م بتونس ضجة كبيرة، وكان يتم توزيعه في كنف السرية.
ووقعت نسخة من الكتاب بين يدي التلميذ الحبيب بورقيبة الذي قال في شأنه فيما بعد عندما أصبح أول رئيس للجمهورية التونسية: « لقد أخفيت الكتاب تحت غطائي وأنا متأثر شديد التأثر، فاطلعت على ما احتواه من أرقام وما تضمنه من معلومات حول الأموات والفقر، وشعرت بالإهانة الناتجة عن الاستعمار، وكنت أبكي خفية ». وقد اقتصر الكتاب على نشر القوانين والأوامر والمراسيم التي رغبت فرنسا في تطبيقها، إضافة إلى إيضاحات لفهم تلك القوانين والأوامر. ومع ذلك فإن الحكومة الفرنسية اعتبرت كل مُطالع للكتاب « عدوا لفرنسا » وجعلت من قراءته جنحة حقيقية. وقد زاد كتاب « تونس الشهيدة » في حماس الوطنين التونسيين الذين تبنوا المطالب الواردة فيه، وأجمعوا على بعث أول حزب منظم في تونس برئاسة الشيخ عبد العزيز الثعالبي وهو « الحزب الحر الدستوري التونسي » الذي تم الإعلان عن تأسيسه يوم 15 يونيو 1920م. وقد تمثل رد فعل الحكومة الفرنسية في إلقاء القبض على مؤلف « تونس الشهيدة » ونقله يوم 28 يوليو 1920م إلى تونس، حيث اعتقل في السجن العسكري بتهمة التآمر على الدولة الفرنسية، ولكن اعتبارا لما أثاره ذلك الإجراء التعسفي من ردود فعل لدى الرأي العام سواء في تونس أو فرنسا فقد اضطرت السلطة الفرنسية إلى الإذن بإطلاق سراحه في أول مايو 1921م. [pdf-embedder url= »https://apcpedagogie.com/wp-content/uploads/2016/03/tunis-shahida.pdf »]
كان الشيخ عبد العزيز خطيباً مفوّهاً، ومحاضراً مجيداً، وكاتباً صحفياً بارعاً، وعالماً ومؤلفاً قديراً، اتخذ من لسانه وقلمه أداتين رائعتين لكفاحه السياسي والاجتماعي والفكري، فكتب وألف، وكان لكتاباته آثارها البالغة في نفوس من تصل إليه من التونسيين والعرب والمسلمين والفرنسيين وسواهم.
ألف كتاب (روح القرآن) ثم ترجمه إلى اللغة الفرنسية، ودعا فيه إلى الإصلاح والبعد عن الجمود، فأحدث ضجة بين أبناء الجالية الفرنسية في تونس. له من الكتب: تاريخ شمال أفريقيا. فلسفة التشريع الإسلامي. تاريخ التشريع الإسلامي. مذكراته. في خمسة أجزاء. معجزات محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نُشر منهما جزءان فقط. محاضراته في جامعة آل البيت ببغداد. وقد نشرت في الصحف البغدادية. تونس الشهيدة. طبعة في باريس باللغة الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى، فاتهمه الفرنسيون بالتآمر على أمن الدولة الفرنسية، واعتقلوه ثم نقلوه إلى السجن في تونس، ومكث فيه تسعة أشهر ثم أخلوا سبيله عام 1920. الكلمة الحاسمة، وهو كتيب كان من آخر ما كتبه مبينا فيه أسباب الفشل لمحاولة التوحيد بين الحزبين عام 1937. |